فصل: تفسير الآية رقم (172):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال يا رب من هم؟ فقال الأنبياء، ورأى واحدًا هو أشدهم نورًا فقال من هو؟ قال داود، قال فكم عمره قال سبعون سنة قال آدم: هو قليل قد وهبته من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائه وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست قد وهبته من ابنك داود؟ فقال ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئًا، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها.
أما المعتزلة: فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه.
واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه.
الحجة الأولى: لهم قالوا: قوله: {مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} لا شك أن قوله: {مِن ظُهُورِهِمْ} يدل من قوله: {وَإِذْ أَخَذَ} فيكون المعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم.
وعلى هذا التقدير: فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئًا.
الحجة الثانية: أنه لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئًا من الذرية لما قال: {مِن ظُهُورِهِمْ} بل كان يجب أن يقول: من ظهره، لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد، وكذلك قوله: {ذُرّيَّتَهُم} لو كان آدم لقال ذريته.
الحجة الثالثة: أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا من قبل} وهذا الكلام يليق بأولاد آدم، لأنه عليه السلام ما كان مشركًا.
الحجة الرابعة: أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل، فلو أخذ الله الميثاق من أولئك الذر لكانوا عقلاء، ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلًا أن ينساها نسيانًا كليًا لا يتذكر منها شيئًا لا بالقليل ولا بالكثير، وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ.
فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر، وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلًا.
فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة، وجب القول بمقتضاه، فلو جاز أن يقال إنا في وقت الميثاق أعطينا العهد والميثاق مع أنا في هذا الوقت لا نتذكر شيئًا منه، فلم لا يجوز أيضًا أن يقال إنا كنا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئًا من تلك الأحوال.
وبالجملة فلا فرق بين هذا القول وبين مذهب أهل التناسخ فإن لم يبعد التزام هذا القول لم يبعد أيضًا التزام مذهب التناسخ.
الحجة الخامسة: أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عدد عظيم وكثرة كثيرة، فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغًا عظيمًا في الحجمية والمقدار وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لذلك المجموع.
الحجة السادسة: أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلًا فاهمًا مصنفًا للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة.
وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات.
وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة، فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون عالمًا فاهمًا عاقلًا؛ إلا إذا حصلت له قدرة من البنية واللحمية والدمية، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا، فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم عليه السلام؟
الحجة السابعة: قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت، أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا.
والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير ذلك حجة عليهم في التمسك بالإيمان؟
الحجة الثامنة: قال الكعبي: إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال، ولما لم يكن توجيه التكليف على الطفل، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذوات؟
وأجاب الزجاج عنه فقال: لما لم يبعد أن يؤتى الله النمل العقل كما قال: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النمل} [النمل: 18] وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ} [الأنبياء: 79] وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول، وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا هاهنا.
الحجة التاسعة: أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدر أو ما كانوا كذلك، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال.
وأما الثاني: وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر، فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم.
الحجة العاشرة: قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 5، 6] ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين، لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقًا من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة.
قلنا: هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقًا على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقًا على سبيل الإعادة.
وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل.
الحجة الحادية عشرة: هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع، بقي القول الأول.
فنقول: إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل.
والثاني: يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات: أولها وقت الميثاق، وثانيها في الدنيا، وثالثها في القبر، ورابعها في القيامة.
وأنه حصل له الموت ثلاث مرات.
موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول، وموت في الدنيا، وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11].
الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنين: 12] فلو كان القول بهذا الذر صحيحًا لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب، وذلك باطل.
لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة، والعلقة، والمضغة، ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} وقوله: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أي شَيْء خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} [عبس: 17- 19] فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف.
والقول الثاني: في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات: أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات، وجعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرًا سويًا، وخلقًا كاملًا ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وغرائب صنعه.
فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان، ولذلك نظائر منها قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشيء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقول العرب:
قال الجدار للوتد لم تشقني ** قال سل من يدقني

فإن الذي ورايي ** ما خلاني ورايي

وقال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطنى

فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه، فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين، وهذا القول الثاني لاطعن فيه ألبتة، وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافيًا لصحة القول الأول: إنما الكلام في أن القول الأول هل يصح أم لا؟
فإن قال قائل: فما المختار عندكم فيه؟
قلنا: هاهنا مقامان: أحدهما: أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذَّر؟ والثاني: أن بتقدير أن يصح القول به، فهل يمكن جعله تفسيرًا لألفاظ هذه الآية؟
أما المقام الأول: فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها وقررناها، ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع.
أما الوجه الأول: من الوجوه العقلية المذكورة، وهو أنه لو صح القول بأخذ هذا الميثاق لوجب أن نتذكره الآن.
قلنا: خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية.
والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى، وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها.
فإن قالوا: فإذا جوزتم هذا، فجوزوا أن يقال: إن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ وإن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدان.
قلنا: الفرق بين الأمرين ظاهر وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى، وبقينا فيها سنين ودهورًا، امتنع في مجرى العادة نسيانها، أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان، وأقل وقت فلم يبعد حصول النسيان فيه، والفرق الظاهر حاكم بصحة هذا الفرق، لأن الإنسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساه، أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساه، فقد ظهر الفرق.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال: مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها بأسرها في ظهر آدم عليه السلام.
قلنا: عندنا البنية ليست شرطًا لحصول الحياة، والجوهر الفرد الذي لا يتجزأ، قابل للحياة والعقل، فإذا جعلنا كل واحد من تلك الذرات جوهرًا فردًا، فلم قلتم إن ظهر آدم عليه السلام لا يتسع لمجموعها؟ إلا أن هذا الجواب لا يتم إلا إذا قلنا: الإنسان جوهر فرد.
وجزء لا يتجزأ في البدن.
على ما هو مذهب بعض القدماء، وأما إذا قلنا: الإنسان هو النفس الناطقة، وإنه جوهر غير متحيز، ولا حالَّ في المتحيز فالسؤال زائل.
وأما الوجه الثالث: وهو قوله فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك الوقت أو في الحياة الدنيا؟